فصل: مطلب في السجود وما يقول فيه وكلمة خلف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في انجاز الوعد وبحث بالوعيد:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ} مع أبيه بأن انقاد لذبحه ووعده أن يصبر على الذبح وبرّ بوعده تنفيذا لأمر اللّه الذي تبلغه على لسان أبيه- كما سيأتي في الآية 143 من سورة الصافات- قال مقاتل وعد الحسن رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه، فأقام ثلاثة أيام حتى رجع إليه وقال الكلبي انتظره حولا.
وسأل بعضهم الشعبي عن مثل هذا فقال إن وعده نهارا فكل النهار، وإن ليلا فكل الليل، وان لوقت ينتظره لوقت صلاة أخرى بعدها.
واعلم أن الخلف بالوعد مذموم وفي الوعيد ممدوح، وقد جاء في الحديث: من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له، ومن أوعد على عمله عقابا فهو بالخيار،
والعرب لا تعد الخلف في الوعيد عيبا بل مكرمة وعطفا، وتعد الخلف بالوعد مذمة ونقصانا، قال قائلهم:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف ايعادي ومنجز موعدي

وقال آخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده ** وإن أوعد الضراء فالعقل مانعه

ومن هنا يفهم أن وعد وأوعد بمعنى واحد إذا صرح بالموعود به، وإلا فإن وعد للخير، وأوعد للشر.
ويجوز خلف الوعيد على اللّه تعالى أيضا لأنه من محض الفضل، قال يحيى بن معاذ: الوعد حق العباد على من ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم، ومن أولى بالوفاء من اللّه وهو الآمر به؟ والوعيد حق اللّه على العباد فإن شاء عفا وإن شاء وأخذ.
والعفو من أسمائه تعالى وقد حبّذه لخلقه وهو العفو الرحيم، وأولى الأمرين العفو، ويأبى كرمه إلا أحسنهما لخلقه اه من شرح العقد للجلال الدواني مع تصرف- {وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 54 مخبرا عن اللّه فيما يأمر وينهى، وقد أرسله إلى جرهم قبيلة من عرب اليمن من قحطان بن عامر بن سائح كما سيأتي في الآية 134 من سورة البقرة، وقحطان أبو قبائل اليمن كلها {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} التي تزوجها من جرهم كما يأمر قبيلتها الذين نزلوا عليه في مكة وأباح لهم الشرب من زمزم التي أنبعها اللّه كرامة له وهو رضيع حين ضاق ذرع أمه مما لحقه من العطش بعد أن كبر وشرفه اللّه بالنبوة والرسالة {بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ} بمقتضى شريعته التي تلقاها عن أبيه ابراهيم من الصحف التي أنزلها اللّه عليه، وبما أوحاه له من الشريعة أيضا {وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 55 عنه وقرئ: {مرضوّوا} فقلبت الواو ياء لتطرفها بعد الواو الساكنة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء بالياء وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء.

.مطلب أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ} أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن خيتان بن شيث بن آدم عليهم السلام، وبينه وبين نوح ألف سنة تقريبا، وسمي إدريسا لدراسة الصحف المنزلة على آدم فمن بعده، وهو أول مرسل بعده، وأول من خط بالقلم ولم تكن قبله كتابة، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط اللباس وكان الناس من قبله يرتدون جلود الحيوانات ويخللونها عليهم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، قال ابن الأثير في تاريخه: إن إدريس أخنوخ كان خوّاء ينظر بالنجوم وأطلعه اللّه على كون طوفان يعم الأرض، فبنى الأهرامات في مصر ليتحصن فيها من يكون زمن هذا الطوفان، قالوا وكان بناؤها بتخلية الهواء من حجر فقط بلا كلس ولا طين ولا غيره، وهو أول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، وأول من قاتل بني قابيل، لأن قابيل ابن آدم لما قتل أخاه هابيل خرج عن طاعة أبيه وانفرد بعصيانه وأخذ أخته وهاجر عنه، فنشأ أولاده على المعصية، فلما بعث اللّه إدريس وجعله خلفا لآدم غزاهم واسترقهم.
فادريس عليه السلام أول مؤسس لهذه المهن المارّة، وأول من سن الجهاد واسترقاق المغلوبين، وستأتي قصة قابيل معه في الآية 30 من سورة المائدة إن شاء اللّه {إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} 56 تقدم تفسير مثله {وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا} 57 بتشريفه بالنبوة والرسالة وتقريبه من اللّه برفعه إلى السماء الرابعة.
روى أنس بن مالك بن صعصعة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج- متفق عليه- واختلف في حياته وموته، واتفق الجمهور على أنه حي، وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس، وثنان في السماء إدريس وعيسى. اهـ- من بحر العلوم- على أن الخضر مختلف في نبوته، وأكثر العلماء على أنه ولي، ولهذا البحث صلة تأتي في الآية 16 من سورة الكهف إن شاء اللّه تعالى.
وخلاصة قصته عليه السلام أنه حببّ إلى الملائكة لكثرة عبادته، فقال لملك الموت أذقني الموت يهن علي ففعل بإذن اللّه، ثم أحياه اللّه، ثم قال لمالك خازن النار، أدخلني النار أزدد رهبة من اللّه، فأدخله فيها بإذن اللّه، ثم أخرجه منها، ثم قال إلى رضوان خازن الجنة أدخلني الجنة أزدد رغبة في عبادة اللّه، فأدخله فيها بإذن اللّه، ولما أراد أن يخرجه أبى فتلاحيا بينهما، فبعث اللّه ملكا ليتحاكما إليه، فقال الملك بعد أن أخذ ادعاء المدعي رضوان ودفاع المدعى عليه إدريس لإدريس: لم لم تخرج بأمره بعد أن أدخلك بأمره وأنت تعترف بأنك استأذنته بالدخول وأنه أمرك بالخروج فلم تفعل؟ قال لأن اللّه قضى على كل نفس بالموت بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية 36 من سورة الأنبياء وقد متّ، وقضى على كل نفس بورود جهنم بقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} الآية 74 الآتية وقد وردتها، وقضى على كل من دخل الجنة أن لا يخرج منها بقوله: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} الآية 49 من سورة الحجر، ولذلك فإني لا أخرج. فأوحى اللّه إلى الملك بأمري دخل وبأمري لا يخرج. وجاء هذا في حديث طويل أخرجه ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، واللّه أعلم بذلك، ولا يقال إن هذه الآيات المحتج بها نزلت على محمد ولم تكن في زمنه، لأن اللّه قادر على إلهامه إياها، لأنها مدونة في لوحه، وقد يجوز أنه أشار إليها في الصحف التي أنزلها عليه.
هذا، وان الرفعة بالمكان كما جاء في هذه الآية لا تكون معنوية بل حسية، وظاهرها لا يحتاج إلى التأويل فيكون، واللّه أعلم، أن سيدنا إدريس حي خالد في جنة ربه، نسأل اللّه أن يدخلنا فيها ونراه إن شاء اللّه، وهذه الآية المدنية من هذه السورة المتأخر نزولها عنها.
قال تعالى: {أُولئِكَ} اشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة كلهم، وما في هذه الكلمة من معنى البعد يؤيد أن نزولها كان متأخرا إذ كان بعد بضع سنين، وفيها إشارة اخرى إلى علو منزلة المشار إليهم ولارتفاع شأنهم عنده {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ} أي إدريس ونوح ومن تقدمه من الأنبياء ومن حملهم في سفينته وذريتهم ومنهم ابراهيم لأنه من ولد سام بن نوح {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ} اسحق وإسماعيل ويعقوب المعني بقوله: {وَإِسْرائِيلَ} ومن ذرية موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى المار ذكرهم، عليهم جميعا صلوات اللّه وسلامه، لأنهم كما شرفوا بالنبوة شرفوا بالنسب الطاهر {وَ} هؤلاء المحترمون الأكارم {مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا} من خلقنا إلى الإيمان بنا والدعوة لخلقنا لتوحيدنا ورفض ما سوانا {إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ} المتضمنة الأمر لهم بالسجود لنا والخضوع لعظمتنا والخشوع لقدرتنا {خَرُّوا} سقطوا على وجوههم إلى الأرض {سُجَّدًا} لإلهيّتنا وحدها {وَبُكِيًّا} 58 خوفا منا وطمعا برحمتنا.
وقيل في المعنى:
ونبكي إن نأوا شوقا إليهم ** ونبكي إن دنوا خوف الفراق

.مطلب في السجود وما يقول فيه وكلمة خلف:

وهذه السجدة من عظائم السجود أيضا، أخرج ابن ابي الدنيا في البكاء وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر رضي اللّه عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟ وأخرج ابن ماجه واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث سعد بن ابي وقاص مرفوعا: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا».
وقال العلماء: ينبغي للساجد أن يدعو في كل سجدة بما يناسبها، فهنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء الآتية يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك، وأعوذ بك من المتكبرين عن أمرك.
وهكذا، راجع بحث السجود في آخر الأعراف المارة، وما ترشدك إليه، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} جاء بعدهم عقب سيء، وكلمة {خلف} لا توجد في القرآن إلا هنا وفي الآية 168 من سورة الأعراف المارة، وتقرأ بفتح اللام في غير هذا الموضع، ويكون معناها أتوا بأولاد سوء، وعلى القراءة بإسكانها كما هنا أتوا قوم سوء.
قال النضر بن شميل الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء، أما الصالح فبالتحريك فقط. وقال ابن جرير بالمدح بفتح اللام وبالذّم بتسكينها على الأكثر، لذلك فالقراءة هنا بالتسكين لأن معناه الرّديء وعليه المثل سكت ألفا ونطق خلفا وبالفتح إذا قام مقام أهله، ومن هذا القبيل النصب بالفتح التعب، وبالسكون الشر، والشق بالفتح الصدع في عود أو زجاجة، وبالكسر نصف الشيء، والسّداد بالفتح الإصابة، وبالكسر كل شيء سددت به من قارورة وغيرها.
ولهذا البحث صلة في الآية 56 من سورة المؤمن، وتقدم في الآية 17 من سورة الفرقان المارة مثله وفي الآية 17 المارة أيضا فراجعها، {أَضاعُوا الصَّلاةَ} تركوها وقرئ الفعل بالجمع وفاقا لقوله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} آثروها على طاعة اللّه وانهمكوا فيها {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 59 واديا في جهنم يرونه، هذا الخلف السيء ويدخلونه.
أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا «أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار».
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قال الغيّ نهر أو واد في جهنم من فيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغيّ السوء وعليه قول مرقش الأصغر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لاثما

أي سيء.
وقال ابن عباس هو واد في جهنم تستغيث وتستعيذ منه أودية جهنم كلها أعد للزاني المصرّ وللشارب المدمن ولآكل الربى المصمم عليه، ولأهل العقوق وشهود الزور، والزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته، فهو عبارة عن تمويه الباطل وتزخرفه بما يوهم أنه حق، ويطلق على اللهو والعناء، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: الغناء ينبت النفاق بالقلب كما ينبت الماء الزرع- راجع بقية هذا البحث في الآية 72 من سورة الفرقان المارة- قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا} تأييدا لصحة إيمانه وتثبيتا لتوبته {فَأُولئِكَ} التائبون الموصلون توبتهم بالإيمان والعمل الصالح حتى الممات، فإنهم {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} جزاء ثوابهم وعملهم الصالح {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} 60 من اجزاء أعمالهم الحسنة التي عملوها قبل توبتهم فإنها تحسب لهم ويتقاضون أجرها تماما، فكما أن الكفر يحبط الأعمال فالتوبة تعيد ثوابه، ثم ذكر صفة أهل الجنة التي يدخلها التائبون وليست بواحدة بدليل قوله جل قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} إقامة دائمة بدل من الجنة المقدمة التي لامها للجنس الدالة على الكثرة وهي {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ} عنهم فلم يشاهدوها قبل وقد هيئت لهم من حيث لا يعلمون {إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} 61 حاصلا وأصلا لمن وعده به جزما لا خلف فيه {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} الآية 111 من سورة التوبة، ومن صفة هذه الجنّة أن أهلها {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا} من فضول الكلام وما لا ينبغي أن يقال وما لا يعني القائل والسامع {إِلَّا} لكنهم يسمعون فيها {سَلامًا} من اللّه جل جلاله وملائكته عليهم ومن بعضهم أيضا، وهذا سلام تحية وإكرام وإجلال.

.مطلب في الأكل المسنون وإرث الجنة:

قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 62 بمقدار طرفي النهار بالنسبة لأيام الدنيا، إذ لا ليل ولا نهار فيها فهم في النور أبدا دائما ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب والنهار برفعها من قبل الملائكة الموكلين بذلك، وأفضل العيش عند العرب ما كان في هذين الوقتين، وكانت لهم أكلة واحدة في اليوم والليلة فمن أصاب منهم أكلتين فيها سموه الناعم فأنزل اللّه هذه الآية على عادة المتنعمين ترغيبا لعباده، وما جاء عنه صلى اللّه عليه وسلم الأكل مرتين في اليوم من الإسراف محمول على أنهما غير العشاء، إذ به يصير ثلاث أكلات وهو من السرف، فلا يرد على ما جاء في هذه الآية، راجع الآية 31 من سورة الأعراف المارة {تِلْكَ الْجَنَّةُ} الموصوفة بما ذكر هي {الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا} 63 نقيا مخلصا في عبادته منفقا من فضل ماله فيعطيها أمثاله عن ثمرة أعماله، وقيل إنهم يرثون أعمالهم الحسنة، وقيل إنهم يرثون مساكن أهل النار فيها لو كانوا آمنوا زيادة على مساكنهم، والسياق يناسبه راجع الآية 40 المارة والآية 43 من سورة الأعراف المارة تجد ما يتعلق بهذا، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا» فأنزل اللّه على لسانه قوله: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} يا أكرم الرسل ليس لنا من أمرنا شيء {لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا} لا نملك منهما شيئا ابدا {وَما بَيْنَ ذلِكَ} أيضا هو بيده وحده {وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} 64 غافلا عمّا يكون منا في جميع أحوالنا، وذلك المالك لأمرنا وأمر خلقه أجمع هو {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} لا يجوز عليه السهو والنسيان والغفلة، كيف وهو مدبر الكون كله بما فيه فلا تقع حركة ولا سكون فيه إلا بعلمه وأمره وقضائه وقدره، ولذلك فلا نقدر أن نزورك إلا بالوقت الذي يأمرنا به {فَاعْبُدْهُ} يا أكرم الرسل حق عبادته جهد قدرتك {وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ} وتحمل مشاقها ومكارهها في القر والحر، والراحة والتعب، والضيق والسعة، والرضاء والغضب، والصحة والمرض حتى العطب، وأنظر {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 65 فيما سبق سمّي باسمه، كلا ولا يسمى بعد، والحمد للّه الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء وهو الرب العظيم والإله الكبير المنفرد بأسمائه وصفاته، ويطلق السمي على الولد قال الشاعر:
أما السّميّ فأنت منه مكثر ** والمال مال يغتدى ويروح

وليس مرادا هنا لأن السّميّ غير المسمى قال تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ} قيل المراد به أميّة ابن خلف الجمحي لأنه قال ما يأتي في هذه الآية استهزاء، واللفظ عام واللام للجنس، فيشمل كل من يقول هذا القول لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ومقول القول: {أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} 66 استفهام إنكار على طريق الاستبعاد للبعث الذي أخبر به اللّه وتكذيبا لرسوله الذي يهددهم به وسخرية بهما قال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ} المذكور آنفا {أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ} الحالة التي هو فيها {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} 67 فيستدل هذا الخبيث بالخلق الأول على الثاني، لأن من قدر على الإيجاد أولا لا يعجز عن الإعادة لما أوجده ثانيا بل هي أيسر، ثم أقسم بنفسه عزت نفسه فقال: {فَوَرَبِّكَ} يا حبيبي لنحيينّهم مرة ثانية ثم {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} والكافرين أمثالهم، وجملة الجاحدين لما أخبرنا به {وَالشَّياطِينَ} أيضا معهم لأن لكل كافر قرينا من الشياطين يحشر معه مقرونا به {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} 68 قاعدين على ركبهم لشدة ما يدهمهم من هول المطلع وموقف الحساب، قال تعالى: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً} الآية 25 من سورة الجاثية خائفة مترقبة ما يؤل إليه حالها ثم إن الكفرة يساقون على حالتهم تلك أذلاء مهانين لأن قعودهم على هذه الصفة دليل على حقارتهم وهي بكسر الجيم والتاء ويجوز ضم الجيم {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} طائفة غارية من الكفار {أَيُّهُمْ} كان في الدنيا {أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} 69 جرأة وتمردا وفجورا فنطرحهم فيها الأعتى فالأعتى على الترتيب الأكبر جرما والأشد كفرا.
وإنما خصّ اسم الرحمن دون سائر أسمائه الحسنى في هذه الآية والآيات المتقدمة إعلاما بأنه لا ينبغي أن يغرّ الكافر برحمته تعالى، لأن من حل عليه قضاؤه المبرم بالعذاب لا تشمله الرحمة.
ومن درى أن الرحمة مقيدة بشروط والمغفرة أيضا كما هو مصرح في الآيات الكثيرة من هذا القرآن العظيم، إذ لا تجد رحمة أو مغفرة مطلقة من قيد أو شرط لم يغتر بذكرها، بل عكف على عبادة ربه وطاعته وجعل في قلبه معنى أسمائه المنتقم أيضا، والمذل المهيمن، الحكم العدل، الجبار القهار، قال تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا} 70 من غيرهم فقدمه على غيره بالإحراق فيها، وهذه الآية المدنية الثانية،
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} وأصلها ومقرّب إليها.